ثم يقول: (فإن قلت المراد بقولهم: فلان من الأقطاب) -بناءً على مصطلحهم- أي: ما دامت القطبية بهذه الدرجة العميقة فلماذا يقول الصوفية : فلان من الأقطاب، ويلحظ ذلك من قرأ أي كتاب من كتب هؤلاء القوم، فيجده يقول: وكان من الأقطاب؟! فكيف يكون من الأقطاب مع أنه واحد وصفاته بهذا الشكل؟! قال: (فالجواب: أن مرادهم بالقطب في عرفهم: كل من جمع الأحوال والمقامات وإن لم يكن هو القطب الحقيقي) وقد يتوسعون في هذا الإطلاق فيسمون القطب في بلدهم: كل من دار عليه مقام ما من المقامات، وانفرد به في زمانه على أبناء جنسه، فرجل البلد قطب ذلك البلد، ورجل الجماعة قطب تلك الجماعة وهكذا.
ولكن الأقطاب -المصطلح عليهم- فيما بين القوم لا يكون منهم في الزمان إلا واحد وهو الغوث، أي: أن القطب الحقيقي واحد، ولذلك يتساهلون في الاصطلاح فيزعمون أنه ما من أحد أو جماعة أو بلد إلا ولها قطبها، وعلى هذا يذكرون الحديث الذي ذكره الشيخ هنا، وذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله، لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفسه )، أي: أي جماعة تجتمع فإن فيهم ولياً، فيجعلونهم رجال غيب مجهولين موهومين، فأي جماعة اجتمعت، وأيما فئة من الناس في أي مكان بأي شكل ففيهم ولي، لكن لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفسه!
إذاً: ما الفائدة؟ وما هذه الولاية؟ وما حقيقتها؟ إن هذا اعتقاد حتى يوهموا عامة الناس، ولذلك -كما قد أوضحنا- فإن من مراد الصوفية ومقاصدهم بهذا: ألا تنكر على أحد، ولا تنكر على جماعة ما فعلوا، حتى لو اجتمعوا على شرب خمر؛ لأنه ما يدريك أن فيهم ولياً لله، فإذا رأيتهم مجتمعين على أي شيء فلا تنكر عليهم؛ لأنه قد يكون فيهم القطب الأعظم، فيريدون بذلك -والعياذ بالله- إسقاط الأمر والنهي، وخاصة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم بكل شيء، وكل ذنب وكل جريمة تفعل، ويستشهدون دائماً بقول الله تعالى -في غير موضعه-: (( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ))[الأنعام:112]، فلا تكلمهم ولا تنكر عليهم، بل يقولون: لا بد من التماس العذر لهم، أي: اجتهد أن تلتمس له العذر، حتى لو وجدته يزني أو يشرب الخمر، بل لو كفر بالله، أو قال: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني، أو ما في الجبة إلا الله -تعالى الله عما يقولون- كما قال ذلك: أبو يزيد البسطامي أو الحلاج وأمثالهم، حتى يقولون لك: إن هؤلاء ما كفروا في الظاهر، بل لا بد أن تلتمس لهم العذر؛ لأن هذا كلام عظيم، وله معان خفية لا يدركها المحجوبون أو المغفلون، وهكذا يعنون بذلك أن يظهروا زندقتهم وكفرهم وإلحادهم في كل ملأ، وفي كل اجتماع، ولا ينكر أحد عليهم، فإذا جاء أحد وأنكر عليهم جابهوه بهذه الدعاوى الباطلة.
وهنا سؤال مهم أيضاً وهو: فإن قيل: هل يكون محل إقامة القطب بـمكة دائماً كما هو مشهور ومتداول بينهم؟ ثم يختلفون في أعماله وأحواله، وكيف يكون؟ ولهذا جاء ابن سبعين الخبيث وكان يستهزئ بالطائفين بالبيت ويقول فيهم قولاً شنيعاً، ثم ذهب إلى غار حراء وتعبد واعتكف فيه ويتوقع أن ينزل عليه الوحي والعياذ بالله، إن هؤلاء في هذا الضلال المبين يعتقدون أن القطب لا يكون إلا في مكة أو كثير منهم.
الجواب: يقول لك: هو بجسمه حيث شاء الله، لا يتقيد بالمكث في مكان بخصوصه، ويقول: ليس شرطاً أن يكون في مكة ، فيمكن أن يكون في كل مكان لا يتقيد بمكان معين، قال: ومن شأنه الخفاء، أي: ما يظهر على أنه قطب في الحقيقة، فتارة يكون حداداً، وتارة يكون تاجراً، وتارة يبيع الفول ونحو ذلك، والغرض من هذا: ألا تتكلم على أحد، ولا تنكر على أحد، واعتقد ولاية كل أحد، أو توقع ولاية كل أحد، فقد يكون حداداً، وقد يكون تاجراً، وقد يكون طباخاً، وقد يكون حمالاً وهكذا، وقد لاحظتهم بنفسي، فتجد أحياناً الواحد منهم يقول لك: انظر ذاك، ما يدريك أن يكون هذا ولياً، قد يكون القطب واحداً عادياً جداً، ويمكن أن يؤذن المؤذن ويصلي الناس وهو غافل، ويقال لك: لا تتكلم بأي شيء؛ لأنه قد يكون ما ترك الصلاة وجلس هناك إلا وهو القطب والعياذ بالله، وهذا منتشر بين العامة كثيراً، خاصة في مكة وغيرها -نسأل الله العفو والعافية- وهكذا الواحد لا يستطيع أن يتكلم على أحد، ولا ينكر على أحد، ولا يعرف كيف يتعامل مع الناس؛ لأنه احتمال أن يكون هذا هو القطب كما يزعمون.
يقول الشعراني: (فإن قيل: هل كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم أقطاب؟ وكم عددهم؟ قال: فالجواب: كما قاله الشيخ في الباب الرابع عشر من الفتوحات: إن الأقطاب لا يخلوا عصر منهم، قال: وجملة الأقطاب المكلمين من الأمم السالفة، من عهد آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون قطباً) يقول ابن عربي: (عددهم خمسة وعشرون أشهدنيهم الحق تعالى) أي: أن الله تعالى أشهد ابن عربي وأراه الخمسة والعشرين- في مشهد قدس في حضرة برزخية، بمدينة قرطبة ، وذكر أسماءهم: الفرق ومداوي الكلوم والبكاء والمرتفع والشفار الماضي والماحق والعاقب إلى آخر هؤلاء، يقول: فهؤلاء هم الأقطاب من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله من هذا الضلال.
ابن عربي إذا ذكر عند بعض الناس وتكلم فيه قالوا: أنت على مذهب ابن تيمية ؛ ابن تيمية كفر ابن عربي ، وكأنها عداوة شخصية بين ابن عربي وابن تيمية ، ولو ذهبت إلى بلاد الشام فرأيت ما يفعلون عند قبر ابن عربي لرأيت العجب، إذ إن الصوفية يأتونه من جميع أنحاء الأرض، ويعتقدون فيه والعياذ بالله الشرك الأكبر.
يقول ابن عربي: (واعلم أن لكل بلد أو قرية أو إقليم قطباً غير الغوث، به يحفظ الله تعالى تلك الجهة، سواء كان أهلها مؤمنين أو كفاراً) وكذلك القول في الزهاد والعباد والمتوكلين وغيرهم لا بد لكل صنف منهم قطباً يكون مدارهم عليه، حتى اليهود و النصارى، ثم يقول: (وقد اجتمعت بقطب المتوكلين، فرأيت مقام المتوكل أو التوكل يدور عليه دوران الرحى حين تدور على قطبها)، وهذا هو معنى القطب عندهم، فهم أخذوها من نظرية اليونان في دوران الأفلاك، يقول: (وهو عبد الله بن الأستاذ ببلاد الأندلس ، فقد صحبته زمناً طويلاً) يقول: (وكذلك اجتمعت بقطب الزمان سنة 593هـ بـمدينة فاس في المغرب ، وكان أشل اليد، فتكلمت على مقام القطبية في مجلس كان فيه، فأشار علي أن استره على الحاضرين ففعلت) أي: قال له: لا تتكلم ففعل! مع أنه ربما يكون شيطاناً تلبس، أو ربما أن واحداً رآه يتكلم كلاماً فارغاً فقال له: اسكت، لكنه يقول: أكيد هذا القطب الأعظم قطب الزمان، وأشار عليَّ ألا أفشي أو أتحدث بسر القطبية، يقول: (فإن قلت: فهل مدة معينة للقطبية إذ وليها صاحبها لا يعزل منها حتى تنقضي؟ فالجواب: ليس للقطبية مدة معينة، فقد يمكث القطب في قطبيته: سنة أو أكثر أو أقل إلى يوم أو ساعة؛ فإنها مقام ثقيل، وبعضهم لا يتحمل أن يكون قطباً إلا لساعة واحدة) يقول: لتحمل صاحبها أعباء الممالك الأرضية كلها، ملوكها ورعاياها.
إذاً: هو الذي يدبر أمرهم -تعالى الله عما يصفون- وهو الذي يعمل كل شيء، فلا يستطيع أحد أن يتحمل الدنيا وما فيها من الملوك والأتباع إلا مثل هذا القدر، ثم ذكر أن بعضهم قطبيته تمكث ثلاثة وثلاثين سنة، وبعضهم أكثر، وبالقطب تحفظ دائرة الوجود كله، وبالإمامين يحفظ الله العالمين: عالم الغيب، وعالم الشهادة، وبالأوتاد يحفظ الله تعالى الجنوب والشمال والمشرق والمغرب، فهو يقسم رجال الغيب والأولياء الكبار على التقسيم الجغرافي تقريباً، ثم بالأبدال -وعددهم سبعة- يحفظ الله الأقاليم السبعة، وهذا علم الجغرافيا القديم قبل أن تكتشف الأمريكيتان واستراليا، ولا أدري كيف علموها؟! يقول: (وبالقطب يحفظ الله جميع هؤلاء؛ لأنه هو الذي يدور عليه أمر عالم الكون كله) ثم ذكر الوراثة فقال: (هل للقطب أن يتصرف في الوراثة فيورثها لأحد أبنائه مثل ملوك الدنيا، كما حدث أيام الدولة الأموية والعباسية؟ قال: لا؛ لأن الإرث الباطن غير الإرث الظاهر).